أعلم أن السؤال ربما يبدو ساذجاً لدى البعض، وربما يصدم آخرين ممن كانوا يأملون في دعم الغرب لنتحول إلى بشر لهم حقوق طبيعية كما يحدث في العالم الآخر، وربما يخشى البعض الآخر من مجرد طرح السؤال ولو أغلق على نفسه الأبواب ووجه السؤال لنفسه خوفاً من أن يسمعه أحدهم
ما جعلني أوجه هذا السؤال لنفسي وللآخرين هو مقال رائع قرأته للكاتب الصحفي عبد الله السناوي تناول فيه بالتحليل محاضرة مجرم الحرب الصهيوني "آفي ديختر" والتي ألقاها على طلبة معهد أبحاث الأمن القومي بإسرائيل حول إستراتيجية دولة العدو المقبلة في الشرق الأوسط، ولخطورة ما قال الرجل اعتملت في ذهني عدة أفكار قررت على إثرها أن أتناولها بالتحليل مع القراء الأعزاء
و"آفي ديختر" -لمن لا يعرفه- هو رئيس الشاباك الإسرائيلي السابق (جهاز الأمن العام لما يسمى بإسرائيل) وأحد كبار قادة وحدة القوات الخاصة التابعه لهيئة الأركان وهو أحد كبار مخططي وواضعي خطط الأمن القومي لدولة العدو الصهيوني
أردت تعريف القارئ العزيز بهذا الشيطان ليعرف مدى أهمية ما قاله خلال محاضرته والتي تحدث فيها بشكل موسع عن سيناريوهات انتقال السلطة فيما يسمى حاليا "مرحلة ما بعد مبارك"، وهو أمر تحدث فيه ويتحدث العشرات بل المئات من الكتاب والباحثين في مصر والعالم، والتي أجملها ديختر في 3 سيناريوهات :
1- وقوع انقلاب وهو ما استبعده بصورة شبه قاطعة لاعتبارات متعددة ليس هنا مجال ذكرها
2 - أن يفشل من يأتي من بعد الرئيس مبارك في إدارة شئون الدولة مما يصل بالأمور إلى حالة الفوضى العامة أو (Chaos) وتنهار الدولة تماماً بكافة مؤسساتها لتظهر بعدها قيادة جديدة تقوم بإجراء انتخابات حرة ونزيهة - بالفعل وليس كتلك المهزلة التي يفضحها الإعلام العالمي دوماً - قد تسفر عن قيادة من مختلف التيارات السياسية في مصر
3 - وربما يحدث ما هو أكثر خطورة وإيلاماً من وجهة نظر إسرائيل و هو وصول جماعات إسلامية إلى سُدة الحكم بوسائل غير تقليدية وبعيدا عن الانتخابات إذا ما بدأت القبضة الأمنية في التراخي، وهي الفزاعة التي تستخدم حالياً لتبرير غلظة القبضة الأمنية أمام العالم
مما سبق نرى أن كافة هذه الخيارات ستسبب أزمة هائلة للمخطط الإسرائيلي -الأمريكي، وضربة قاصمة لجهود مضنية استمرت عقوداً ثلاثة نجحت فيها إسرائيل ومن وراءها الولايات المتحدة ودول الغرب في إخراج مصر -بالترهيب أو الترغيب- من حلبة الصراع، وهو الأمر الذي لو انعكس لمنيت هذه الأطراف -ومنها أطراف عربية بالقطع- بخسائر هائلة أقلها هو استعادة مصر لدورها الإقليمي الطبيعي والمنطقي
وخلاصة القول، إن مصر وبعد اتفاقية السلام وبدءاً بعهد انفتاح "السداح مداح" وحتى عهد "الدولة الرخوة" كما أسماه العالم الجليل الدكتور جلال أمين، يجب وأن تظل محيدة وبعيدة عن الدخول في أي صراعات أو تحالفات مع قوى إقليمية كبرى أو أن تأخذ جانب دول أخرى معادية لإسرائيل، وضمان استمرار ذلك مهما تغيرت الوجوه والشخصيات في مصر
لذا فكلما قرأت عن تحركات لبعض قوى المعارضة من خارج مصر للمطالبة بممارسة ضغوط خارجية على النظام المصري من أجل دعم وإقرار الديمقراطية، ساورتني الشكوك العنيفة في مدى حسن نية هؤلاء، وأيقنت بأن الأمر يقف خلفه مصالح خاصة وشخصية
ودعونا نفترض أن الغرب قد وافق على دعم عملية الحراك السياسي في مصر وإرساء الديمقراطية وتداول السلطة بين التيارات والبرامج السياسية المختلفة في مصر، ترى ماذا تكون النتيجة؟
سأذكر لكم بعض ما جال بخاطري سريعا ًوأترك لكم المجال لإضافة ما ترون من سيناريوهات
1- قناة السويس: هل نتخيل أن مصر كانت ستوافق على أن تمر القوات الأجنبية عبر قناة السويس لتضرب أي دولة عربية - مهما كانت حجم خلافات مصر معها؟ (لا داعي هنا لمناقشة بنود اتفاقية القسطنطينية بالطبع)؟
2- إيران: هل كانت مصر ستقف هذا الموقف العدائي من إيران ؟ في تقديري أنه إذا كانت مصر "ديمقراطية" فإنها ستتمتع بقدر هائل مما يسمى بالقوة الناعمة، ثقل دبلوماسي وثقافي واجتماعي لا يمكن لأي دولة أخرى في المنطقة مواجهته أو الوقوف أمامه إضافة إلى الثقل العسكري، وبالتالي كانت العلاقة المصرية - الإيرانية ستتخذ منحى آخر تماماً لا يتسم بهذه العدائية التي نشاهدها حاليا، وما أقصده هو ان قوة مصر في هذا الوقت كانت ستجعل لها ما يكفي من المهابة والاحترام لدى الجميع دون اللجوء الى السباب والشتائم، وهو الأمر الذي كان سيجعل إيران تفكر ألف قبل أن تستعدي مصر عليها باعتمادها لمشروع استراتيجي توسعي - إن صدق هذا الزعم من الأساس
3- المقاومة الفلسطينية: ولن أفصل في هذا الأمر كثيراً، ويكفينا التعاون الأمني والمعلوماتي الحادث حالياً بين مصر وأمريكا وإسرائيل والذي تم بمقتضاه إمداد مصر بأحدث أجهزة كشف الأنفاق ووسائل الاستشعار لمنع أي ذبابة من العبور إلى رجال المقاومة، مما قد يشكل خطرأ على أمن إسرائيل، فهل كان هذا سيحدث إذا ما وجدت حكومة منتخبة ديمقراطيا ؟ وهل كان معبر رفح سيظل مغلقاً لأن من يتحكم به على الجانب الآخر حماس وليس الأحباء في فتح؟ وألم يكن من الممكن ان تغض مصر الطرف عن عمليات الدعم اللوجستي للمقاومة دون أن يتسبب لها ذلك في أزمة مع الآخرين؟
4- اتفاقية كامب ديفيد: بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هذه الاتفاقية، أليس من حق الشعب المصري أن يعيد تقييم الأمور بحساب الأرباح والخسائر من هذه الاتفاقية؟ أليس من حق مصر أن تفكر في تأمين حدودها الشرقية وأن تستعيد سيادتها المنقوصة؟ (مصر إلى الآن لا تستطيع إدخال أي قوات مسلحة أو أسلحة ثقيلة ألى سيناء ويقوم على الأمر هناك قوات أمن مركزي بأسلحة خفيفة) أليس من حق المصريين أن يدخلوا إلى سيناء دون المرور بعشرات نقاط التفتيش التي يذل فيما المواطن، فيما يدخل الإسرائيليون سيناء صباح مساء بالبطاقات الشخصية فقط؟
5- العالم العربي والإسلامي: لا يمكن لأحد أن ينكر دور مصر في مساندة دول العالمين العربي والإسلامي على مدار التاريخ، وهي التي لعبت دوراً في غاية الخطورة في صد العدوان عن هذه المنطقة من حيثيين و حملات صليبية وتتار وصولاً إلى المشروع الصهيوني، وبعد أن قامت الدول العربية بمساندة مصر في حربها عام 1973 أدركت الولايات المتحدة والعالم الغربي خطورة السلاح الذي يمسك به العرب بين أيديهم فكان لابد من اعتماد مخطط طويل المدى يهدف إلى تحييد أو إضعاف قدرات هذا السلاح .. وبنظرة إلى أحوال مصر والسعودية ودول النفط العربي سندرك تماماً إلى مدى نجح هذا المشروع .. فما بالنا لو أن مصر الرسمية كان تملك سلاح الديمقراطية ويدعمها في ذلك المواطن .. بالقطع كانت الصورة ستتغير كثيراً
6- رجال الأعمال: وهذه قل فيها ما شئت فلدينا من رجال الأعمال العشرات ممن وضعوا أيديهم في أيدي من قتلوا وشردوا عشرات الآلاف من المصريين والفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم ولم يجدوا في ذلك حرجاً، لا لشيء إلا لزيادة أرصدتهم في الخارج والتي تنتظرهم في حال ما تغيرت الأمور في مصر، إلى جانب الحفاظ على أكبر قدر من القوة الاقتصادية والاجتماعية تم اكتسابهما بسبب هذه العلاقات والتي وصل بعضها إلى تصدير الأسمنت وحديد التسليح لدولة العدو، والتعاون في استيراد المنتجات الاسرائيلية وإدخالها إلى مصر تحت اسم منشأ لدول أخرى، ناهيك عما قد تسببه هذه المنتجات من أضرار صحية على المواطن المصري، إلى جانب تصدير الغاز بأبخس الاثمان والتحجج بأن الاتفاقية بين شركات خاصة من الجانبين لا دخل للمجالس النيابية بها .. فهل لو كان لدينا ديمقراطية بحق كنا سنجد كل هذا العدد من رجال الأعمال الذين لا يخدمون إلا مصالحهم سواء بتزاوج المال مع السلطة او بسن تشريعات تحميهم وتعمل على تضخيم أموالهم دون أدنى اعتبار للوطن أو المواطن ؟ وكم منهم سيبقى في مصر إذا ما تغيرت الأوضاع؟
7- الشفافية وحقوق الإنسان: اعتقد أنه لا يوجد نظام ديمقراطي "منتخب" يسمح بأن يتحول أفراد النظام الأمني لديه إلى آلهة يمشون على الأرض ..يقتلون ويعذبون وينتهكون الحقوق دون رادع أو عقاب، اللهم إلا إذا افتضح الأمر، ولا يوجد نظام ديمقراطي يسمح بأن تتحول جل ميزانية الدولة للانفاق على الأمن على حساب التعليم والصحة، ولا يوجد نظام ديمقراطي تتحول فيه حياتك إلى جحيم إذا ما شجر بينك وبين أحد أفراد هذه السلطة أدنى خلاف، أو إذا ما طالبت بورقة رسمية أو معلومة ما، وللمقارنة فقد أمر الرئيس الأمريكي أوباما بالإفراج عن عشرات الوثائق والصور تسجل انتهاكات للقوات الأمريكية في العراق وأفغانستان إبان عهد الرئيس بوش الابن،وهو الأمر الذي سيكون له تداعيات كبيرة منها ما قد يصل إلى الزج بالعديد من الرموز السابقة في السجن لسنوات
والآن .. أين مصر ؟ مصر الكبيرة والعظيمة يا سادة أصبحت تحارب في معارك جانبية مع قناة فضائية "تخاصم" بسببها أشقاءها العرب، وتحارب حزباً في دولة مجاورة أذل العدو الصهيوني كما لم يذله أحد منذ حرب 1973 المجيدة، وتغلق معبر رفح مما يوقع أهل غزة تحت وطأة حصار رهيب، وتجند آلتها الإعلامية الفاشلة لتسب وتلعن في حسن نصر الله ليل نهار عبر صحافة وقحة ومقززة لم تجرؤ على توجيه هذه الإهانات لمن هدد بقصف السد العالي أو ارتكب المجازر في قانا و جنين وغيرها، وأصبح شغلها الشاغل التصدي لما يزعم بأنه مد شيعي يهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية في، مصر حتى أصبح سب الشيعة ومذهبهم أحد الركائز الأساسية في الحياة اليومية في مصر، وصار البسطاء من المصريين للاسف وحتى من لا يصلي منهم يشارك في السباب دون أن يقرأ من الأساس عن هذا المذهب .. فهل كنا سنرى شيئاً من ذلك لو كان في مصر ديمقراطية ؟
لذلك لم اتعجب وأنا أرى مصر تنقسم يوماً بعد يوم إلى فئتين - او قل دولتين - فئة رجال الأعمال وأثرياء المرحلة وفئة من يشربون مياه الصنبور ويأكلون الخضراوات المعالجة بالمبيدات المحظورة .. أو كما أسماها الكاتب الكبير فهمي هويدي "مصر الأخرى"، ولعل نظرة سريعة إلى أرصفة الشوارع بما عليها من روايات جديدة تدور حول ثورة الجياع تنبئ بما قد يحدث في مصر
لذا فإن المثل القائل "ما حك جلدك مثل ظفرك" هو ما يجب اتباعه لا الاستعانة بدول سيقض مضاجعها تمتعنا بنعمة الديمقراطية التي يرفلون هم فيها منذ عقود، فإن أراد الشعب المصري التمتع بنعمة الديمقراطية فلا بد أن يعمل هو وحده -وليس بدعم الآخرين- على ذلك بكافة الوسائل المشروعة في هذا الإطار
بالله عليكم: هل يمكن ان يحدث كل ما سبق إذا ما كانت مصر ديمقراطية؟ بل هل بعد ما سبق - وهو غيض من فيض أترك لكم المجال لتضيفوا إليه - يمكن لنا أن نتخيل أن تدعم أي دولة في العالم تحول مصر أو غيرها إلى الديمقراطية؟
اشترك الان معنا ليصلك جديدنا يوميا عبر الايميل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق